الأربعاء، 17 مارس 2010

من هو جمال الصليعي ؟ سامي بلحاج علي والمختار بن علي





جمال الصليعي .. معطيات بيوغرافية

مدينة دوز الواقعة في الجنوب الغربي من البلاد التونسية واحة صحراوية تهددها الرمال وتحميها ظلال النخيل. لم يعرف سكانها الاستقرار النهائي إلاّ منذ فترة ليست بعيدة. من زار المنطقة من الرحالة قبل القرن السابع عشر لم يذكروا أنّهم وجدوا مدينة بهذا الاسم. أشاروا إلى رمال مترامية ومسالك أو مهالك صحراوية وعرة. وتشهد واحات النخيل المحيطة بالمدينة من كلّ الجهات أنّها ليست قديمة العهد. التاريخ الشفوي المتناقل يرجع أصول المرازيق المستقرين بالمنطقة إلى قبائل بني سليم الوافدين من الجزيرة العربية إثر الغزوة الهلالية.

هم من البدو الرحل الذين لم يربطهم بالمنطقة غير استقرار أحد مرابطيهم الصالحين فيها ووفاته بها. فتقاطروا متجمعين حول مدفنه، ولم تنته موجات التوطين إلا بعد الفترة الاستعمارية.

مازال النمط الحضري يصارع البداوة في معيشة المرازيق. ومازال للانتماء القبلي و"العروشي" صوته الذي كثيرا ما يعلو فوق مفهوم المدينة والمواطنة. ومازالت ميولات المرازيق النفسية ومواقفهم الفكرية واعتباراتهم الأخلاقية بدوية صميمة مثلما بقيت لهجتهم عربية "فصيحة". كل واحد من هؤلاء المرازيق محكوم بولاءات قبلية تنطلق من العائلة إلى "العرش" إلى القبيلة بأسرها. وهم يعتبرون أنفسهم من "الأشراف" ومن "البدو الأقحاح" الذين لم يذلهم عمل بالأرض - " فهو متروك للخمّاسة "- ولم ترهقهم ضرائب فقد أعفاهم البايات منها.حياتهم : تفقد للأملاك ... ورحلة صحراوية سنوية للرعي وانتجاع ... ورحلة أخرى إلى أراضي القمح للمبادلة والمقايضة ... وما تبقى فهو للعلم والدين ... فلا عجب أن أجلتهم القبائل المجاورة ونظرت إليهم بوصفهم "شيوخ زوايا" و بركة دينية".

" المرزوقي" إذن نموذج "البدوي المتدين". يهوى الفروسية وركوب الخيل لكنه لا يرقى إلى تأسيس قبيلة "محاربة" تجير غيرها وتحميها. (فلقد كانت المرازيق غالبا قبيلة مجارة)... يحفظ القرآن وقليلا ما يعمل به. يبجّل السلطة ولكنه دائم الخروج عنها صعب الانقياد لها. ثقافته شفوية وموقفه من "المكتوب" يجمع بين القداسة والانتقاص. الترحال المر زوقي انقسم بفعل هذا الاندماج بين التدين والبداوة إلى صنفين صنف بدوي صريح واصل حياة الصحراء والرعي واتباع موارد المياه ... وصنف دعاه رزقه ودينه إلى القطع مع الترحال البدوي الصحراوي دون أن يتمكن من الركون إلى عالم التحضر و"التملك" . فجمع بين "الرحلة" و"الدين" بانتقالات بين القرى والمدن والأرياف مقرئا للقرآن "مؤدبا" للصبيان في الكتاتيب المنتشرة في كافة أرجاء البلاد التونسية، دون أن يستقر بمكان لأنه دائم العودة إلى البلدة/ الأم ...حيث القبيلة الأصل.

لقد وجد هؤلاء "المقرئون" أنفسهم في غربة دائمة و"تهميش" غريب. ثقافتهم القرآنية ومستواهم التعليمي يدعوهم إلى الترفع عن عامة الناس الأميين بدوا وحضرا ... لكن ارتحالهم حرمهم من شرف العلم عموديا وأفقيا. فالسلطة التي احتضنت وميزت العلماء بتعيينهم عدولا و"قضاء" و"عمالا" . خلقت منهم أهل "بيوتات" يشار إليها بالبنان فقرّبتهم الدوائر الرسمية إليها عند كل قرار. والعامة التي وجدت مصالحها مرتبطة بهم أعلتهم وبجلتهم ودانت لهم بكل أصناف التعظيم والإجلال. ولقد وجد "مقرئ القرآن" نفسه مبعدا عنهم رغم حفظه للقرآن وإلمامه بثقافة قد تكون أرفع من ثقافتهم إن لن تكن مساوية لها (لغة عربية، فقه، أدب عربي ...)

أما في مواطن ترحاله فلم يكن إلا غريبا يحفظ الصبيان القرآن الكريم بمقابل يقيم الأود. وقد لا يطيب له المقام أكثر من سنوات معدودة ينتقل إثرها إلى غيرها من كتاتيب المدن والقرى دون أن يرقى الإجلال الذي يجده من الأهالي إلى مرتبة "بيوتات" العلم والدين بها. ولذلك ناصب بعضهم العداء للخاصة والعامة، وترفعوا عنهم ولاذوا بترفعهم أنيسا لترحالهم واغترابهم.

كان والد شاعرنا جمال الصليعي من هؤلاء المقرئين . حفظ القرآن في الكتاتيب و"الخلوة" دون أن يلتحق بمؤسسة تعليم رسمية (جامع الزيتونة أو أحد فروعه مثلا)، أو شبه رسمية (الزوايا الكبرى). ثم عاش متنقلا بين مناطق مختلفة من الجنوب التونسي إلى أن التحق بالوظيفة العمومية كاتبا في مركز معتمدية دوز ثم كاتبا في البلدية . ولم يطل به المقام في الوظيفة. وعرف الاعتقال السياسي فقضى في السجن ثلاث سنوات . وفي سنة 1974 سافر إلى ليبيا حيث وافته المنية هناك في جانفي 1978.

عرف والد شاعرنا بالنكتة الناقدة اللاذعة يترجم بها غالبا عن موقف واع بوضعيات اجتماعية وسياسية ,وعن سخرية من تناقضات صادقة أو زائفة يعيشها الآخرون دون أن يفطنوا إليها. ولقد كان ضحية لتعليقاته الساخرة ونكته اللاذعة، إذ دخل السجن بعد تعليق سياسي. تكشف النوادر المرويّة عنه أنه كان يضيق ذرعا بنمط المعيشة الذي يسود وبسلوك الناس المتقبل بواقع الحال إضافة إلى ترفع عن الآخرين بجميع أصنافهم حاكما ومحكوما، متعلما وأميا، بدويا مترحلا أو حضريا مستقرا... ويجمع بعض من يعرفه أنه كان مثقفا ثقافة عالية. فإلى جانب حفظه للقرآن وعلومه من ترتيل وتجويد – وقد وهبه الله صوتا مؤثرا يوقف الناس عن حاجتهم للاستمتاع بتلاوته- كان متمكنا من اللغة العربية وعلومها شغوفا بها. وتروي بعض النوادر أنه كان لا يتحدث إلا بها. أضاف إلى كلّ ذلك إطلاعا واسعا على الأدب العربي قديمه ومعاصره (مدرسة المهجر الخاصة) موثرا للشعر حفظا وشرحا. ولقد أورث ابنه كل هذه الميولات فكان يحفظه القرآن ويطلعه مبكرا على ما يقرأ من معلقات أو قصائد تراثية أو معاصرة ويدفعه إلى حفظها. ولا عجب أن يتعلق الصّبي بوالده وأن يندفع إلى القرآن والشعر واللغة وأن ينغرس هذا الشغف في نفسيته فيترك فيه بصمات واضحة.

ولد شاعرنا في 25 نوفمبر سنة 1955 في ليلة باردة إثر زواج أول لم يعمر طويلا. فارق الأب زوجته واصطحب معه ابنه وحيدين بين القرى والمدن والأرياف. ولا شك أنّ الطلاق أشعره باليتم، وجعل الإحساس بمرارة الحياة في ظلّ غياب الأم يراوده مبكرا. يكتب جمال في دفتره المدرسي عن فراق والدته بأنه كان "فقدانا لينبوع الحنان المتدفق أمام تيارات الألم والأنين". كان الأب خلال هذه السنوات المبكرة في حياة شاعرنا منصرفا لابنه مربيا ومعلما. وكان الابن متنعما بعاطفة الأبوة الخالصة إليه وحده . وسحر حقا بعالم أبيه القرآني والأدبي والشعري ... عالم اللغة العربية في أصفى مصادرها.

امتدت هذه المعيشة الثنائية المترحلة إلى أن وصل شاعرنا سن المرهقة. لم يكن مزاج الأب صافيا تماما. فنوعية حياة كحياته تدفعه أحيانا إلى قسوة مؤثرة في طفله... لكنها تدفعه أيضا إلى تقرب مؤثر أيضا... نعمة الرضا والعطف مشروطة بتحقق الصورة التي يريدها الأب أن تكون في ابنه . ولقد جاهد جمال الصليعي أن يكون كما يرضى عنه أبوه. حفظ معلقات وقصائد برمتها دون أن يعي منها حرفا... ولا شك أنه قد حفظ من القرآن قدرا كبيرا... وترسخ في النفس ألم كبيرا يتحدث عنه سنة 1971 قائلا : "ليس لأحد غيري أن يعرف من أنا إلا إذا كان أحد أبناء الألم مثلي، أما السعداء فلا يعرفون ولن يعرفوا عن حقيقـتي شيئا".

أثناء هذه السنين الطويلة كان لابد أن يلتحق جمال الصليعي بالمدرسة. لكنه لم يعرف الانتظام في مدرسة واحدة. كان أحيانا ينتقل من مدرسة إلى أخرى خلال سنة دراسية واحدة حسب ما تمليه ظروف عمل الأب. كان يتركه عند أحد اخوته إلى أن يستقرّ له الأمر بأحد الكتاتيب. ثم يعود لحمله معه حيث يتم سنته الدراسية معه* . وهذا الترحال المتواصل والاغتراب المستمر والاضطراب الدائم أورث جمال الصليعي حبا لموطنه وشوقا غالبا إليه. ولعله لم يستطع إلى حدّ الآن الخروج من تناقض الرحلة والقرار. للترحال سحره وللاستقرار نعيمه. وهو مشدود بينهما دون يقين. إن استقر طلب الرحيل وإن ارتحل حنّ إلى الاستقرار. ونصب العينين دائما عالم الصحراء والبداوة و"المرازيق"، رغم أنه بشكل من الأشكال غريب هنا وهناك.

فجأة يقرر الأب الزواج ثانية ويختار زوجة لا تكبر ابنه بغير ثلاث سنوات ! ويطلب من ابنه أن يتقبل الأمر وأن يعيش معهما في موطن غربة آخر. لم يتقبل الابن ذلك . وكان لهذه الحادثة وقعها الأليم في نفسه حسب تعبيره. كان جمال الصليعي في سنته الثالثة من العليم الثانوي عندما قرر الرحيل النهائي عن أبيه وعن وطنه كله. هرب في ظل غياب التفاهم وانعدام الانسجام تاركا بيت الأسرة مهاجرا إلى ليبيا منقطعا عن الدراسة وهو لم يتمم السابعة عشرة من العمر. وكان ذلك إعلانا لقطيعة صعبة مع أب "معبود". ولا شك أن الأمر قد خلف خدشا ما لأي تصور ممكن عن عالم المرأة الذي كان منذ البدء مخدوشا بفعل غياب الأم طيلة سني الطفولة والمراهقة. وهي خدوش مثل الشروخ التي أصابت صورة الأب قد دفعت الابن إلى معاناة تمزق نفسي كان وراء قرار الهرب والهجرة وكان وراء حنين متأصّل في النفس إلى عالم ماض صاف نقي لا يمكن أن يرقى إليه أيّ واقع قائم ولا يمكن أن يطاله أيّ مستقبل ممكن مهما تحققت الأماني والأحلام. عالم الأبوة المعبودة كان يتماهى بما يصوّره الأب عن حضارة عربية أسسها القرآن وخلدها الأدب وصورها الشعر وحضنتها الضاد... وقد ضاع العالم بصفحتيه الذاتية والحضارية.

يتوفى الأب في البلاد نفسها التي كان يعيش فيها الابن (ليبيا) سنة 1978 ويدفن دون أن يحضر الابن جنازة أبيه. لكنه يعود بعد سنة كاملة 1979 وقد قرّر أن يفارق هجرته مختارا أن يعيش في تونس العاصمة. لقد عاد جمال من غربته دون أن يتزوّد بما يضمن له الاستقرار في مدينته.

إن التنقل بين قرى الجنوب ومدنه، ثم الهجرة إلى ليبيا والعمل في تونس العاصمة يفسر غياب العلاقات الحميمة التي كان من الممكن أن تنشأ في بيئة لا يمكن أن تعرف فيها للحياة مذاقا حلوا من دونها. وهذا الغياب غرس في وجدان شاعرنا غربة أشد مرارة من غربة الوطن، غربة لا يعرف أبعادها إلا من عاش وحيدا في مدينته.

اشتغل في العاصمة أجيرا في أحد المحلات التجارية. لكنه لم يمكث طويلا إذ سرعان ما رفض منطق المدينة وعاد في شهر أوت 1980 إلى دوز ليعمل فترة تاجرا جوالا بين أسواق المنطقة. وقد غدت سيارته وسيلة عيش وبيتا يأوي إليه كلما أعلن النهار نهايته. لم تستمر هذه الحالة طويلا إذ سرعان ما باع السيارة وأصبح يجوب شوارع المدينة لا يجد سبيلا لسد رمقه.

فجأة في سنة 1981 يتزوج جمال الصليعي قريبته في جمع بين الخيار الذاتي والرغبة في الاستقرار وبين سلطة العادات والتقاليد التي لا تزال إلى زماننا تخيم بسطوتها على ظروف مختلفة من أوجه الحياة في مدينتنا. ولم تدم البطالة كثيرا. ولعلّ الحلم بتكوين أسرة والاستسلام لشروطها جعله يبحث عن عمل يجد فيه استقرارا يمسح سنوات الغربة والعذاب.

تقلب جمال الصليعي بين مهن مختلفة من بائع في دكان إلى بائع متجول إلى سائق لكنه لم يغفل عن المطالعة والمحاولة الإبداعية. كان منذ صغره قوي الحافظة، يلقي عن ظهر قلب قصائد جاهلية وفصولا مطوله من كتابات جبران النثرية. ومازال إلى حدّ الآن يعول على الحافظة فقط في إيداع قصائده وفي الحفاظ عليها. فهو لا يكتب شيئا لا أثناء تأليف القصيدة ولا بعد اكتمالها. إذ تظل القصيدة تجول في خاطره بين تنقيح وتصويب وإضافة وحذف إلى أن تتخذ صورتها النهائية فيقرأها معتمدا على الذاكرة. وقد لا تلامس الورق إلا بعد إلحاح كبير من محبيه الراغبين في قراءة نصه، والاحتفاظ به مكتوبا. وهي معضلة كبيرة، لا يملك لها تفسيرا إذ تحولت إلى عادة أصبح التخلص منها صعبا.

دخل جمال الصليعي طقوس الكتابة مبكرا. خط في دفتره المدرسي بعضا من الملامح الأولى لتلك التجارب التي توزعت بين الشعر وكتابة القصص القصيرة العاطفية والوعظية. أولى المحاولات التي مازال محتفظا بها تعود إلى سنة 1964. وهي قصيدة بعنوان "هيا بنا إلى الغاب". ومنذ 1967 امتلك ناصية العروض فأضحت قصائده صحيحة الوزن منها قصيدة "النصر" وقصيدة "البعيد" التي كان مطلعها:

دمـوعي على بعد الديـار هو اطل وقلبـي على فقـد الحبيـب يسـائل

وفي سنة 1972 رثى الزعيم جمال عبد الناصر بقصيدة عنوانها "النجم الآفل" يقول في مطلعها:

وا حسـرة القلب على كـوكب قد كـان في عليـائنـا يسطــع

وكان في سنة 1971 قد نشر بمجلة المعهد الثانوي حي المنارة بقابس قصيدة "المحروم" على بحر الرمل. وهو في كل كتاباته المبكرة يعزف على تداعيات السياسة (القدس –فلسطين) وعلى بكائيات الحرمات الذاتي. إضافة إلى غزليات محتشمة ! ونحن نعرف معرفة يقينية أن الشاعر جمال الصليعي مازال إلى حدّ الآن يكتب قصائد غزلية دون أن يسمح لها أن ترى النور ودون أن يعترف بها كشعر يرتضي إلقاءه أو نشره بين الناس. تغلف الموقف بالقضايا العروبية الأهم واندسّ الغزل في قصائده "المؤشرة" بين ثنايا الرمز الوطني. ولا شك أيضا أن تجارب عاطفية كبيرة طويت وأغلق عليها ستار حديدي من بينها تجربة فاشلة سبقت حادثة هروبه إلى ليبيا. تحدث عنها باختصار لا يتعدى القول بأنه قد وقع في "شرا ك" إحدى الفتيات الحسان".

كانت سنوات الهجرة وما بعدها سنوات صعبة عانى فيها الشاعر ظروفا قاهرة ومصاعب مادية واجتماعية جمة. ولم تستقر ظروفه إلا بعد الزواج سنة 1981 وبعد الوظيفة القارة كسائق لسيارة الإسعاف بالمستشفى المحلي بدوز. وبداية من هذا التاريخ ستنتظم مشاركاته الشعرية في التظاهرات الثقافية المختلفة مثل مهرجان الصحراء بدوز وعكاظيته الشعرية، ومثل أمسيات اتحادات الشغل بقبلي وقابس والتظاهرات المنجمية بالمتلوي والأمسيات الشعرية التي كانت أجزاء من الجامعة التونسية تحييها في شتى المناسبات (أول مشاركة بالجامعة التونسية ترجع إلى سنة 1986).

لم يقتصر نشاطه على إلقاء الشعر. فلقد أسس ناديا للشعر سنة 1987، احتضن المحاضرات ورعى المبتدئين وأفرد يوما للشعر الفصيح في عكاظيات مهرجان الصحراء ولامس الساحات التلمذية بمشاركاته الأدبية والثقافية (مجلات، مسابقات). ولذلك لا يستغرب أن يكون في جهته شاعرا معروفا ومطلوبا منذ بداية الثمانينات. وتعدت شهرته حدود الجهة. فقد عاد إلى ليبيا شاعرا سنة 1984. وتكفلت الإذاعة الليبية بإذاعة قصائده مرارا وتكرار. ويمكننا أن نعتبر سنة عودته من ليبيا 1979 بداية لمرحلة شعرية تتجاوز البدايات والمحاولات الأولى. وهي مرحلة ستمتد إلى سنة 1992 حين بدأ القصيدة الناضجة المتفرّدة في صوتها.

المرحلة الأولى تحوي قصائد تقليدية خطابية مباشرة يعلو فيها صوت الفخر وصوت الهجاء على التشكيل الجمالي الفني.

إذا ما رمنا إحصاء توثيقيا لكل ما عثرنا عليه من شعر جمال الصليعي مهما كانت سنة كتابته لحصلنا على هذا الجدول:

المحـاولات الأولية: ما قبل 1979

17 محاولة

مرحلة التدرب: (1979 – 1992 )

28 قصيدة أغلبها من الشعر العمودي

05 منها فقط هي من الشعر الحرّ

مرحلة النضج والتفرد: (1992-2000)

05 منها فقط هي من الشعر الحرّ

10 قصائد قد نضيف إليها قصيدة واحدة يعكف عليها الشاعر منذ فترة دون أن ينهيها.

05 منها هي من الشعر الحرّ والقصيدة الجديدة هي أيضا من الشعر الحرّ لكنها غير محتسبة ولم نحسب كذلك وادي النمل لجمعها بين الحرّ والخليلي.

ولم نحسب "الشعر الملحون" –أي ما كتب بالعاميّة – رغم اعترافنا بأن جمال الصليعي يجيد هذا الضرب من الإبداع ولو نزلنا عند رغبة الشاعر لما أحصينا كل القصائد التي تسبق سنة 1992، لأنه – وفق منظور النقد الذاتي- يريد أن يخرج إلى الناس مكتمل الصوت ناضج الصورة والعبارة. وللسائل أن يتساءل: هل من دلالة لسنوات الانتقال من مرحلة إلى أخرى؟

* 1979 هي سنة العودة النهائية من ليبيا ولقد كان أجيرا كريما عند عائلة كريمة من سكان درنة وفرت له العمل والمأوى والأجر . استطاع خلال هذه السنوات أن ينكبّ على مطالعات مهمة في حياته. خاصة كتاب الأغاني. ومن المؤكد أنه كان ينظم الشعر دون أن يحاول أو يستطيع الخروج به من دائرة خاصة مضيقة بحكم وضعه كمهاجر غريب صغير السنّ. لكنه منذ عودته عمل جاهدا على أن يصنع اسمه الشعري بإنتاج غزير ومشاركات نشطة وانتظام على الحضور في الفعاليات الثقافية المتاحة.

إن الخطاب الموجّه الذي يستنهض العزم ويزيل غبار التهجّن. والأسلوب المباشر الخلو من الغموض، والعبارة السهلة الواضحة في معناها, إن كل ذلك جعل شعره مطلوبا، لأن موجة الحماس الإيديولوجي كانت طاغية. والحدث الذي أملى مضمون قصائده الناقدة المحتجة على الأوضاع السياسية العربية لم يكن بعيدا عن 1979. إنّ توقيع اتفاقية السلام بين السادات وزعماء بني صهيون "حدث " لم يستطع جمال الصليعي أن يفكّ نفسه من إساره. وبقيت أشعاره حتى الأخيرة منها –الطوفان مثلا- تحتج عليه، وتعالج انعكاساته على النفس العربية المحبطة.

لقد وصل جمال الصليعي إلى ليبيا في سنّ السابعة عشرة موزعا بين تداعيات الحرمان الذاتي وهواجس الوضع الحضاري العربي. الأولى خلقت من غياب الأم وتناقضات الأب والترحال المتواصل. أمّا الثانية فوليدة ثقافة الأب وتعلقه الوجداني بالزعيم جمال عبد الناصر. والدليل الأوضح اسم ابنه البكر. كانت ليبيا طيلة السنوات التي قضاها شاعرنا فيها وما بعدها بوقا داعيا للقومية العربية يسبّح بأمجاد الماضي ويصب شتى أنواع الهجاء على الواقع القائم والحكام العرب ... فساعدت الشاعر على أن يتنكّر لجراحاته الذاتية وينكبّ على الخط السياسي حتى أن قصائده في تلك المرحلة لا تبتعد عن مقولات الخطاب الرسمي والإذاعي الليبي إلا بالوزن والقافية. واستمر الشاعر إلى يومنا هذا في إلجام الذاتيات والعمل على الشاغل السياسي الكبير . لكنه لم يتخلص من أن يكون دائما شاعرا متأثرا بما يسود القاع الشعبي والعمق المحيط. لا يحاول الفكاك منه ولا يتجاوزه بنقد أعمق أو معارضة أنضج. تأثر الأب وابنه بموجة متجاوبة مع الزعيم جمال عبد الناصر . وتأثر الشاعر بسائد "ليبي" يعمق الطروحات نفسها . وانعكس ذلك حتى على الخيارات الشعرية نفسها فظل وفيا للمتقبل "الشعبي " من شعر تفعيلي وشعر حرّ هو أقرب للنهج الكلاسيكي الذي رسخته السنون في الأذهان والأذواق. ولقد رأيناه في حرب الخليج الأولى والثانية ورأيناه في غيرها من "الأحداث" العربية يميل مع موقف "الشارع الشعبي". معتبرا نفسه "الناطق الشعري" بلسانه ... وبقدر مرونته في التماهي مع "السائد الشعبي المحيط" يكون صلبا عند الانغلاق عليه. ويضفي من الثوابت التي ترفع كل اللاءات تحصنا بها. ليكون الحاصل النهائي: شخصية عربية "بدوية" شعبية ملتزمة بثوابت فكرية وأخلاقية وفنية لا تتنازل عن أي ملمح من ملامحها مهما كان جزئيا ومهما كان المبّرر . حتى "آداب" المجاملة والمصانعة لا تفلح في اختراق حصنها فكيف بالمطامح والمطامع والمقامع. ليس جمال الصليعي شاعرا حساسا مرهف المشاعر رقيقها كما تصور بعض الأديبات شخصية الشعراء، فهو أقسى وأصلب، في الظاهر على الأقل. معاناته الذاتية علمته أن يكون كذلك حتى ينتصب على قدميه. كل الذاتيات لا تؤثر فيه. وكل المحليات والجهويات والإقليميات و"الحزبيات" لا تنفذ إلى قراره. وجدانه متفتح فقط على الحدث العربي العام والهمّ الشعري الخاص وما بعد هذين الاعتبارين فزبد يستحق أن يذهب جفاء.

* أما سنة 1992 فتشير إلى بداية ظهور الانعكاسات التي أعقبت حرب الخليج الثانية. هذا الحدث العاصف الذي أسفر بوضوح عن صعوبات حيوية تهدد الحلم العربي في العمق والصميم. لم يعد حلمنا محتاجا فقط إلى وعي شعبي يغير الأنظمة لتتحدّ الأمة وتزول الحدود وينهار العدو. أذاقت حرب الخليج شاعرنا مرارة العجز والإحباط . وكشفت له عن سذاجة التصورات الوحدوية السابقة. وحاصرته بواقع يزداد رداءة واستسلاما ليختنق من جديد بالوحدة والغربة في نهج لم يعد يسير فيه إلاّ بعض "الشواذ". فانكبّ على صوته مؤنسه الوحيد في نهجه ذاك يراجعه ويجوده. ثمّ إنّ المحيط الشعري الذي يحتكّ به شاعرنا قد تغيّر. لم يعد يلقي فيسمع التصفيق ثم ينسحب. ثمة من ينقد ويثمن التجربة والصوت داعيا إلى ما هو أرقى وأنضج. توسعت الدوائر. وتعددت المنابر. ذرع بلاده طولا وعرضا. استدعى إلى ليبيا في احتفالات "الثورة" سنة 1984 وإلى اليمن في مهرجان ثقافي سنة 1995 وإلى العراق في مهرجان المربد سنة 1996 وإلى المغرب بمناسبة معرض الكتاب سنة 1998. انصب النقد على الخطابة والمباشرة وتقليدية القصائد. قاوم عناده مصرا على الوضوح. لقد أحبّ جمال الصليعي لغته. واستعذب طقوسها وامتطى صهوتها يمسك أعنتها. فانقادت له دون عنت وبادلته عشقها. وكان أن اشتغل لهيب الشوق بينهما شعرا يقيم كونا ويبني عوالم كلما ولجتها أذهلك صوت إيقاعها العذب ودقة معناها، وسحر صورتها.

في مرحلة التدرب عّبر جمال الصليعي على موجة الحرف متشحا بالهم أنيسا وبالرؤيا حلما ممكنا ينشد واقعا جميلا فسالت الينابيع وتفجّر البركان لغة أمضى من حدّ السيف تموج لترسم الصراخ والوحشة وتدبج بالحروف نواح النقمة والتحريض وتخنق قهقهة الذل والاستسلام. لكنه في مرحلة النضج والتفرد تراجع إلى أقرب الخطوط الخلفية وهو "الإيحائية الواضحة" التي تعتمد لغة لا تفضحها المباشرة ولا يسترها الغموض الكلّي، لغة تقرر وتفتح باب الاحتمال واسعا، تبتغي الإبانة عن لواعج الأشجان، تتجاوز الدنس والعهر إلى الطهارة، تساندها هبة إلهية في صوته الساحر لحظة الإنشاد إذ يرحل صداه في أرجاء المكان فارضا سيادته، فتبهت أصوات البقية في حضوره، يفضحها خجلها، فتنزوي وتتبعثر في الزوايا. وتلك هي مأساة المتشاعرين الذين يحضرون في غيابه، ويغيبون في حضوره وإن حضروا. وتبقى لغة جمال الصليعي تغتسل بصفائها ليتألق إشعاعها ويضيء نورها ظلمة التيه زمن الانكسار، زمن الخواء، زمن الفراغ الشعري، وترفع لواءها عاليا أنّ مملكة الشعر باقية لا تسقط وسلطانها لا يموت. فاكتملت بذلك أو قاربت الاكتمال شخصية جمال الصليعي الشعرية. ووقفت آخر قصائده "وادي النمل" دليلا على اكتمال ناضج وخط فني متفرد... ونظنّ أنّ في جرابه المزيد والمزيد، مادام هناك قلق فطري يعتريه، وهواجس متباينة تؤرقه تجعله يتوق شوقا لكتابة الأفضل. كتب عن نفسه سنة 1971 "أنا ينبوع متدفق من الألم والحرمان، ولدت في الظلام وسأموت غدا تحت سيول من النور الساطع" . فهل صدقتم معنا نبوءة الشعراء ؟

* سامي بالحاج علي *** المختار بن علي *


السبت، 6 مارس 2010

عن التشكيل والتدليل في شعر جمال الصليعي -سامي بلحاج علي

عن التشكيل والتدليل في شعر جمال الصليعي

1- انطبـــاع:

درج النقاد على اعتبار الوضوح والمباشرة والأدلجة عيوبا في الشعر. وتواضع الكثير منهم على اعتبار عمود الشعر التقليدي قناة فنية متجاوزة. وتعددت أصوات الحداثة وما بعد الحداثة لتنادى لأنماط جديدة من الكتابة الشعرية. ورغم السائد الشعري والنقدي استطاعت قصيدة جمال الصليعي أن تصل وأن تسرق الإعجاب ملتصقة بالذاكرة محيية في النفوس لذة الانتشاء بالشعر. بل استطاعت أن تتجاوز القطيعة بين الشاعر والجمهور .وهي قطيعة اعتبرت دلالة على انتهاء زمن الشعر. ولذلك كله كان شعر جمال الصليعي شعرا سابحا ضد التيار بعموده التقليدي وخطابه السياسي المباشر وجزالة اللفظة الشعرية في قصائده. لقد فرض نفسه باغتصابه المقنع للإنشداد والانتشار والامتداد وبما حركه ويحركه شعره في نفوس المتلقين من رضا وتشبع باللحظة الشعرية السامية عبر تحقيق المعادلة الصعبة بين "مطالب" الجمهور وفنيّة الكتابة. ونريد من خلال هذا البحث أن نتجاوز لحظة التلقي وأن نفعل شيئا آخر غير الإعجاب والتصفيق لأننا مقتنعون أن هذا الإبداع الشعري يستحق منا أكثر من ذلك. بل من حقه علينا أن يجد صداه الأعمق في محاولة الفهم والتحليل بعد التعامل العاطفي النفسي لحظة الاستماع إلى إنشاده. وليكن تعاملنا فكريا دارسا حتى نتفاعل مع الظاهرة الشعرية بما يرقى إلى مستواها وينفذ إلى خفاياها. فلقد استمعنا إلى جمال الصليعي أكثر من مرة. واعترفنا أن لحظة الانشداد إليه وهو يلقي قصائده: لحظة نفاذ الصوت إلى عمق أعماق النفس هي لحظة تنتشلك من زمانك العادي ترتقي بك وتسمو ولا تدري لماذا تحسّ أنك أمام الماضي الذي يسائلك عن الحاضر والمستقبل أمام العمق الذي يحاسبك على تلوّنات الحال وتقلباته... تستحضر صورا من عكاظ والطور الشفاهي من الحضارة وتدرك في الآن نفسه مرارة الحاضر بكل انتكاساته وإحباطاته ويهزك شوق إلى المستقبل بأحلامه واستشرافاته. وكذلك هو الشعر. ألم يقل السّيّاب:

- أنا الماضي الذي سدّوا عليه الباب.

- أنا الغد في ضمير الليل.

- والحاضر الباقي (1)

2- تــأسيس:

أول مشكلة تعترض الباحث في شعر جمال الصليعي هي مشكلة المدونة فهو لم يطبع إلى حد الآن إلاّ ديوانا واحدا (2) تضمن قصيدة مطولة وأغلب ما نشرته الصحف والمجلات مبعثر لا يصل الباحث إلى جمعه كله بل أن الشاعر لا يعتمد في حفظ قصائده إلاّ على الذاكرة وهو ما يهدد القصائد القديمة بالضياع إن لم يكن قد ضاع الكثير منها فعلا. هذا إضافة إلى غياب المعطيات المؤسسة لترجمة ذاتية مفيدة في عمل نقدي. ولا يملك الباحث ثبتا بتاريخ القصائد التي تمكن من جمعها واعتبرها مدونة لعمله هذا وإن كان يعرف القديم من الجديد عبر متابعة شخصية لما يكتبه الشاعر ويلقيه في المحافل الشعرية التي يشارك فيها أو يستدعى إليها وبفعل الانتماء إلى الوطن الواحد والجيل الواحد يدرك الباحث أن الشاعر قد عايش ثلاث مراحل اجتماعية مختلفة هي مرحلة البناء وأحلام التنمية (ما بعد الفترة الاستعمارية) ثم مرحلة الانتكاس وأزمة الخيار السياسي والاقتصادي ثم هاهو يواكب مرحلة الانخراط في النظام العالمي الوحيد. ويبدو التساؤل عن انعكاساتها في شعره مشروعا شرعية البحث عن الخصائص الإبداعية تشكيلا وتدليلا.

بدأ جمال الصليعي يحاول كتابة الشعر مبكرا. وخرجت نصوصه إلى النور والذيوع ربما قبل الأوان. عدد من قصائده الأولى انتشر وحفظ بشكل ملفت للانتباه وسط الربوع التي نشأ فيها والساحات التي استدعته ليلقي شعره على الأسماع من خلالها، مثل الساحات الطلابية والاتحادات العمّالية. وعرفه الكثيرون من خلال ما يتناقل ويحفظ ويردد من أبيات اعتبرت صيحة جهيرة في زمن الصمت. تبادل الناس نسخا على الأوراق، تسجيلات على الأشرطة، قصيدة "بيعوا عمائمكم" وغيرها كثير. وكان لاسم الشاعر ارتباط قوي بالتيارات السياسية وبظاهرة التأدلج الطاغية في فترة السبعينات وكل ذلك يضطر الشاعر إلى أن يتبرأ من قصائد معينة يطالب بها الجمهور أحيانا ويجد أن تجربته الفنية قد تجاوزتها وأن تقلبات الواقع أيضا قد تخطتها (تقدما أو ارتدادا).

وكان يمكن أن نساير الشاعر فيما تجاوزه. لكن إعادة النظر لتلك القصائد قد تؤكد المنتظم في تجربته وتكشف عن الثابت والمتحول. لذلك كانت أول قصيدة في المدونة مكتوبة في جوان 1982 وآخر قصيدة –وادي النمل- كتبت بين عامي 1996 و1997.

3)- أمـة الشعـر دون شعــر:

في حوار أدبي مع الشاعر جمال الصليعي نشرته إحدى مجلات المعاهد يقول إجابة عن سؤال يستحضر الماضي :" يوم كانت هناك لغة اسمها العربية وليست مسخا للغات أجنبية". وما يهم في هذه الإجابة ليس الموقف الصفوي من اللغة بل إشارته إلى اللغات الأجنبية وما وراءها من ثقافات تسربت إلى حضارتنا وثقافتنا ولغتنا لكنها لم تستطع أن تتسرب إلى عالم الصليعي الشعري. تقرأ كل قصائده فلا تجد كلمة أجنبية واحدة ولا تجد رمزا أعجميا واحدا حتى تلك الرموز الأسطورية التي أصبحت مشتركا إنسانيا يدعي الشعر العربي الحديث انفتاحه عليها وتوظيفه لها أقصاها جمال الصليعي ليؤسس في شعره لعالم عربي خالص العروبة ولا يبدو هذا نتاجا لتكوين أحادي فالشاعر لاشك يتفاعل مع الوافد الغربي شاء أم أبى إن لم يفرض عليه نفسه أثناء الدراسة فسيفعل من خلال وسائل الإعلام أو من خلال المطالعات لكن الشاعر متشبع بالثقافة العربية الإسلامية تشبعا جعل من إيداعه الشعري عربيا قحا فلم يستبق في المخزون المرصود للشعر إلاّ ما كان عربيا وليد البيئة الصحراوية أو البدوية على وجه الخصوص. لا يوظف الشاعر الأساطير الإغريقية والرومانية ولا يكتب بلغة طالها التداخل اللغوي فأضحى شعره إقصاء للثقافات الأخرى على مستوى التكوين والتصور فما بالك بالمتحقق من إبداع. ولأن الثقافة العربية في راهنها خليط ومزيج فإن الشاعر يقصيها هي أيضا فلا يستدعي منها إلا الماضي قريبا كان أو بعيدا. المهم أن لا تكون عليه بصمات الآخر الحضارية وهو ما يؤسس لضلع في ثنائية تشد كل شعر جمال الصليعي هي ثنائية الماضي المشرق والحاضر المعتم.

ولا يصل الذوق المتشبع بالقديم والتكوين الأحادي إلى أن يقنعا بتفسير للظاهرة التي أفرزت قصائد عربية تسير على نهج القدماء في الإبداع الشعري وكأنه لا يكفي أن تكون عربية خالصة في لغتها ومضامينها فكانت عربية خالصة أيضا في بنائها وخصائصها فانتقلت العروبة من نتيجة تستدعي تفسيرا إلى هدف يصبى إلى تحقيقه. يؤكد جمال الصليعي ما ذكر فيقول:" إننا كعرب لم نؤسس بعد لحالة شعرية صحيحة لنا ولعصرنا فإما أننا بغض النظر عن الشكل نعتمد على علاقة الأجداد بالشعر أو أننا نهرع إلى إنجاز الآخر الذي أنجز ما أنجر وفق أرضية أخرى ومعطيات أخرى لا علاقة لنا تقريبا بكثير من عناصرها"

(3). مثل هذا الكلام يعيدنا إلى مشكلة المنهج ويذكرنا بما يطرح على المستوى النقدي و الإبداعي في المسرح والسينما وعلى المستوى التنظيري في الصراعات الحزبية والإيديولوجية. قد تقبل إثارته في تلك المجالات أما أن يثار على الشعر فهو ما قد يفاجئ. إن البحث عن حالة شعرية عند أمة الشعر في زمن موات الشعر لأمر غريب حقا ثم ألم يؤسس العرب حالتهم الشعرية منذ حركة الإحياء إلى حركة الشعر الحر إيداعا وتنظيرا؟ يجيب جمال الصليعي موضحا ما يفهمه بالحالة الشعرية العربية:" هي أن تعتمد آليات النص على ما أنجز خالص شعرنا الذي لا شك في عروبته انتسابا" وهكذا يضيف الشاعر إلى صفويته اللغوية أصالة في نهجه الشعري عبر دعوته إلى شعر عربي لاشك في عروبته وذلك لا يتحقق إلا بآليات رسخها الشعر العربي القديم حتى غدت من جوهر الشعرية العربية. وهو ما يفسر أن الشاعر قد تفتح وتعامل مع الماضي أكثر من تفتحه وتعامله مع الراهن بمختلف مشاربه وليس ذلك من باب الانغلاق أو التعصب بل كي لا يذوب الصوت الشعري المتميز تحت إغراءات الحداثة وأكداس التنظيرات الغربية وصراعات المدارس الشعرية الوافدة مما قد يجهز على عروبة الشعر فنكتب نصوصا عربية اللغة أعجمية الروح .والشاعر يدعونا إلى أن نفيد من الوافد بصهره في بوتقتنا وأخشى ما يخشاه أن يحصل العكس إن لم يكن قد حصل فعلا. فكم من قصيدة حديثة لم تحتفظ من فضائها الثقافي والحضاري بغير حروف الكتابة هذا إذا أهملنا من دعا إلى تغيير حروف الكتابة نفسها !!!. توضح الهدف إذن وهو هدف مركزي في الإبداع والتقبل وفي تصور الحالة الشعرية العربية التي يدعو الشاعر إلى تأسيسها هذا الهدف هو كتابة شعر عربي لاشك في انتسابه للعروبة قلبا وقالبا.

4- تقسيـــم:

لسنا نملك معطيات بيوغرافية توضح المراحل الإبداعية التي مر بها الشاعر ولا نملك كذلك معطيات تفسر لنا انبثاق الهاجس الإبداعي لديه لكن لدينا نصوص توكد أن مولد القصيد هو تفاعل مع الراهن ومع الراهن السياسي تحديدا مما يعطي القصائد طابع رد الفعل المنفعل بحدث سياسي محدد ووضع معيش يصدق هذا على قصائد المرحلة الأولى مثلما يصدق على قصائد المرحلة الثانية وليس من اختلاف بين المرحلتين سوى نقلة من التصريح إلى التلميح إضافة إلى النضج الفني في تشكيل القصيد. سنسمي المرحلة الأولى مرحلة الوضوح وسنعتبر الثانية مرحلة للذات الجريحة ولعل النقلة من الأولى إلى الثانية فيها بعض الطرافة فالقصيدة الفيصل بين المرحلتين هي قصيدة "لغتي" وفيها يرد الشاعر على من عاب عليه الوضوح والمباشرة في شعره وبقدر ما يقنعهم في الجواب يقتنع بهم في قصيدته الرد وفيما تبقى من أشعاره. صحيح أنه قد ظل على نهجه الثابت المتفاعل مع السياسي وظل تفاعله مبنيا على عودة للماضي في تشكيل القصيدة (معارضة لقصيدة قديمة مشهورة أو ترجيع لأبيات شعرية متعارف عليها أو آيات قرآنية) لكنه أصبح يومئ ويجتنب الصريح إلى حد أنه لا توجد في قصائده الأخيرة إلا "لأنا" محاصرة منتقضة انتقاضه الجريح الذبيح و"هم" معيبة غائمة وزمن سلبي رديء فكأن الأمر تقية شعرية بالكلي العام الذي يعتم ما يطرحه.

وأهمية قصيدة "لغتي" لا تكمن فقط في كونها الفيصل بين مرحلتين بل في احتوائها أيضا على موقف من الحداثة والحديث. ليكن منطلقنا ما يقوله محمود أمين العالم:"إن الكثير من هذه المنجزات أخذت تجنح إلى غلبة للتحديث التقني الشكلاني على حساب الخبرة الإنسانية العميقة مما أفضى إلى عزلة الحركة الشعرية عن حركة الحياة" (4) ولنضف ما يقوله أحمد المعداوي عن نفس الظاهرة "معظم ما يكتب اليوم من شعر ينطلق من أساس تنظيري يتمثل في الوهم بأن الإبداع الشعري إبداع لغوي عن طريق تكسير اللغة" (5). يسير جمال الصليعي على الخط نفسه ولعل عشقه للضاد هو أول ما يصده عن هذه الحداثة وأول ما يباعد بينهما فهو لا يعتبرها إلا زخرفا للكلام وكتابات رقيقة ومجونا ونقوشا على مقاصير البروج. الحداثة كما تشيع فيما يكتب من شعر عربي ميوعة تغيب الهم المعشش في كل أرجاء الوطن والأصوات المنادية بالحداثة عنده هي نائحات بوم تطاول العنادل ولا عجب أن يقف من "النزاريات" العاطفية موقفا حاسما:

ليست شواغلك الكبرى مشاغلنــــــا

من للمجامير يذكيها ويرتكـــــن

فأحمل بخورك وأركض خلف غانية

تظل في أثرها ترجو فتمتـــــــن

قد كان في شعرك النهدى مفخــــرة

إذا تحدث عن أمجادك الوطــن

وهذا الرفض للحداثة وما جاءت به جعله يرفض تكسير اللغة وتوظيف الأساطير –إلا العربي منها- ويرفض الأقنعة والمرايا ويرفض التجريب على الشكل الشعري وإن انفتح على الشعر الحر فلم يبق أمامه إلا الماضي ما دام الحاضر غارقا بهذه السيول الوافدة وبما أن الكتابة الإبداعية هي كتابة جماعية دائما وبما أن النص تتنازعه نصوص حاضرة فيه أو غائبة عنه فإن جمال الصليعي قد ترك المجال واسعا أمام النصوص العربية القديمة وأمام الماضي الشعري كي يمتد فيما يكتبه من شعر بدا ذلك واضحا حتى في التصور لوظيفة الشعر والشاعر فلقد أبقى الصليعي على اعتبار الشاعر لسان الأمة الناطق بأمجاد ماضيها وانكسارات حاضرها واستشرافات مستقبلها يقول عن المضمون الواحد لكل قصائده "كان هناك هموم أو هم عربي واضح بيّن ... لابد من التطرق إليه".

5- عــن التشكيــــل:

جوهر الحداثة الانتقال في الفاعلية الإبداعية من مستوى الرسالة إلى مستوى الترميز. بينما "اللاحداثة " تعبر عن نفسها في تركيز النظام الإنساني على الرسالة سواء في الأدب أو الشعر" هذه هي خلاصة ما يطرح كمال أبو ديب(6). ونراه صادقا في انطباقه على أشعار جمال الصليعي الأولى إذا نظرنا إليها على أنها رسالة للعرب ونراه غير صادق إذا نظرنا إلى التشكيل الشعري في قصائده الأخيرة التي لا تخلو من ترميز فهو قد انتقل من قصيدة واضحة ذات رسالة استنهاضية مباشرة لا تعنى بغير العالم الخارجي فتهجو وتمدح وتجعل الزمن انحداريا من عصر ذهبي إلى زمن فاسد رديء دون أن تتخلص من رؤية الشاعر نبيا أو بطلا يحث الهم ويقوّم المعوج أو هو على الأقل يقيّمه وفق مقياس واحد هو المقياس السياسي الإيديولوجي... انتقل إلى كتابة مغايرة فيها حس بمأساة الإنسان ومقاومته لعالم غريب عنه وفيه احتفال بالداخل الإنساني وتناقضات أغواره وأعماقه وفيها أزمنة متداخلة متشابكة مع تغليب للترميز والإيحاء في تفجير الدلالة فأصبح "المثل" العربي أم العلم التاريخي المذكور يتيما في قصائد المرحلة الأولى نسيجا كاملا يتلبس بمقاطع القصيدة من بدايتها إلى نهايتها وإن لم يخرج طبعا عن المرجعية العربية الخالصة.

5-1: المـوسيقـى:

يؤكد الشكل الشعري نفسه النقلة بين المرحلتين وخاصة على المستوى الموسيقي ففي المدونة المعتمدة 17 قصيدة نظمت عشر منها على العمود التقليدي بينما اختار الشاعر للمتبقي شكل الشعر الحر وكلما تقدم زمن الكتابة تناقص الاعتماد على العمود التقليدي دون أن يعني ذلك انعدام قصائد متأخرة زمنيا منتمية للمرحلة الأولى وهي على بحر خليلي لأن الشاعر لم يخرج مطلقا عن النظام التفعيلي مسايرا أغلب المدارس الشعرية الحديثة التي مازالت محافظة على هذا النظام ومازالت خطاها خارجه تبحث عن شرعية مقنعة. والملاحظ في هذا المجال أن الأصوات الشعرية الناجحة قد تحصنت بالكلاسيكية ورأت في الاشتغال من داخل الإطار الكلاسيكي سبيل الإقناع والتحديث يقول محمود درويش:"لابد من الاحتماء بقليل من الكلاسيكية العربية لإقناع الآخرين بأن الشعر العربي الحديث ليس سهلا ...لا أستطيع أن أقبل قصيدة لا تغنّى" ويضيف: "أي قصيدة لا يحفظها ولا يتبناها الناس هي قصيدة ميته"(7).

الكلاسيكية على المستوى الموسيقي خيار فني لابد للشاعر منه إذا أراد أن يكون ما يكتبه شعرا حيا مقبولا والكلاسيكية ملمح ماضوى يصل الشعر القديم بالشعر الحديث بل لعله من المقومات الأساسية للشعر العربي مثله في ذلك مثل اللغة العربية وشعر جمال الصليعي كلاسيكي في معظمه وربما كان كلاسيكيا حتى في القصائد الحرة الست.

يقارب الشاعر في قصائده العمودية التقليدية مفهوم القصيدة العصماء: بحر مركب لغة جزلة أغراض متعددة إيقاعية زاخرة وطابع إنشادي يؤكد أن الشاعر مثل أعلام شعرنا القديم:

- يفترض في الشعر أن يكون إنشادا فيركز على الإلقاء والسماع.

- يتمسك بالعناصر البدوية إيقاعا ولغة وأغراضا ومعاني.

- يكثر من الانتقالات فلا تفلح الروابط في خلق وحدة ما عدا وحدة البيت.

هذه النقاط الثلاث تعد من خصائص الاتجاه المحافظ في الشعر العربي ومن خصائص شعر الإحياء وتمكن البرهنة على تحققها الموسيقي بالاعتماد على دراسات جمال الدين بن الشيخ وابراهيم أنيس ومحمد الهادي الطرابلسي للمقارنة بين ما توصلوا إليه من نتائج وما تحويه القصائد العمودية في شعر جمال الصليعي.

البحور المستعملة: من خصائص شعرنا القديم أن البحور المركبة أكثر استخداما من البحور الصافية أولها الطويل يليه البسيط وقد شهدت بعض البحور تصاعدا مع تقدم الشعر العربي مثل الكامل والخفيف والرمل بينما ظل الأمر على حاله مع بحور أخرى مثل الوافر والمتدارك نعرف أن اعتماد التام من البحور كان كبيرا في الشعر القديم ولم يزدهر التجزئ والتشطير إلا مع موجات التجديد وإذا ما نظرنا في أشعار الصليعي نجدها عينة دالة على مجموع الشعر العربي القديم فكل قصائده تعتمد ستة بحور فقط صدارتها للطويل والبسيط والكامل بينما لا تحظى بقية البحور إلا بقصيدة واحدة لكل بحر (وهي المتقارب والوافر والرمل).

والصدارة التي يحتلها بحر البسيط (5 من 16) تتوضح بالملاحظة التي تساق عن حظ هذا البحر في الشعر الإحيائي والشعر العربي الحديث فهو متأخر الحظ من الاستخدام حديثا وكان شأنه في القديم أن كان متقدما ثم شرع في الانحدار وكذلك الأمر مع الطويل فلقد كان يحتل أرفع النسب وشرع يتأخر إلى أن أصبح قليل التواجد والاستخدام في الشعر الراهن. هذه الملاحظات تسوقنا إلى اعتبار الصليعي لا يستدعي إلا الماضي الموغل في القديم ممثلا في الشعر الجاهلي ولا يحفل بحركات التجديد التي طرأت على موسيقى القصيدة منذ دعوة المولدين لموسيقى شعرية تلاصق واقعهم الجديد. بحر واحد يناقض هذه الملحوظة وهو بحر الكامل الذي تنزع نسبته إلى الارتفاع من القديم إلى الحديث وهو يحضر في مدونة الصليعي بأربع قصائد مساويا بذلك بحر الطويل. وإجمالا فإن الشاعر يبقى في المجال العروضي القديم يستعمل من البحور ما شاع استعماله (باستثناء الرجز والخفيف) وهو بذلك يؤكد امتلاكه لناصية العروض العربي وطالما اشتكى نقاد الشعر الحديث من اختزال البحور الستة عشر إلى بحر أو اثنين على يد الشعراء العرب المعاصرين.

وإذا ما انتقلنا إلى البنية المقطعية للبحور المستعملة فنلاحظ غلبة المقاطع الطويلة مما يدعم الاستنتاج النقدي المنطبق على شعرنا القديم:" كلما كثرت مقاطع البحر كبر حظه من الاستخدام" فبحر البسيط يتكون من عشرين مقطعا طويلا وثمانية مقاطع قصيرة (8/20) وبحر الطويل يماثله، وتنسحب الملاحظة على بقية البحور المستعملة: الرمل(6/16) المتقارب (8/16) ويبقى بحر الكامل الاستثناء الذي يقلق القاعدة لكن تتبع استعماله التطبيقي يبيّن إن الشاعر يقلب الوضعية النظرية: (18/12) ليجعل المقاطع الطويلة أكثر من المقاطع القصيرة إلى حد الوصول إلى (11/16) ولا شك أن المقاطع الطويلة تسم الشعر بطابع إنشادي واضح وتطوعه للإلقاء الأخاذ الذي عرف به الشاعر حتى اعتبر أكثر من ناقد أن سحر الإلقاء يحول دون تقييم ما استمع إليه تقييما معمقا.

وصعود نسبة بحر الكامل يذكر بالشعر الإحيائي الذي ارتفع فيه حظ هذا البحر فنسبته القديمة كانت 60،20% في القرن الثالث للهجرة ووصلت نسبته في شعر أحمد شوقي (8) مثلا إلى 21،08% وما عدا هذا البحر فإن كلام حازم القرطاجني صادق كل الصدق:" ومن تتبع كلام الشعراء في جميع الاعاريض وجد الكلام الواقع فيها تختلف أنماطه بحسب اختلاف مجاريها من الأوزان... فأعلاها درجة في ذلك الطويل والبسيط ويتلوهما الوافر والكامل ... أما المتقارب فالكلام فيه حسن الاطراد إلا أنه من الاعاريض الساذجة المتكررة الأجزاء وإنما تستحلى الاعاريض بوقوع التركيب المتلائم فيها "(9). وقد نضيف اختيارا آخر يتمثل في ورود كل البحور تامة واعتماد البحور التامة خاصية من خصائص شعرنا القديم ولم يزدهر التجزيء والتشطير إلا مع تفشي ظاهرة الغناء منذ العصر الأموي وهو ما يثبت أن جمال الصليعي لم يسع إلى الاشتغال على البحور بتجديد ما حتى بتجزيئها أو تشطيرها محافظا على الإطار الموسيقي الكلاسيكي الموغل في القدم.

وعلى مستوى القافية والروي نلاحظ انعدام القافية المقيدة في شعر الصليعي فأغلب قصائده العمودية ذات قافية مطلقة وقلة القافية المقيدة مظهر من المظاهر الموسيقية في شعرنا القديم أيضا نتأكد من ذلك عبر النسب في الدواوين المدروسة: أبو تمام 2% البحتري 3% أشعار الأغاني 4.5% (10) أما حركة الروي في القوافي المطلقة فتخالف النسب المدروسة في أشعارنا الأقدمين تتصدر الضمة الترتيب في أشعارنا الصليعي بينما تتقاسم الفتحة والكسر بقية القصائد بنسب متساوية ومقارنتها بما ورد في كتاب الأغاني مثلا: الكسرة 46% الضمة 29.5% الفتحة 20% (11) تثبت الاختلاف، أما الحروف المختارة رويا فهي عند القدمين اللام والميم والنون والراء وتحقق ثلاث نزعات معروفة عن الروي في الشعر العربي:

- خروجه من أدنى الجهاز الصوتي.

- تخيّره من الحروف الشائعة في آخر الكلمة العربية.

- اتصافه بالوضوح السمعي (12).

وبالرجوع إلى قصائد الصليعي نجد الترتيب التالي: النون ثم الدال ثم اللام والباء والسين وهي كلها حروف من أدنى الجهاز الصوتي ولعل ذلك ما ينضاف ليثبت تطابقا مع سمات في الشعر العربي القديم ويثبت أن الاختيارات الموسيقية عند الصليعي لا يطالها التجريب والتطوير بل هو يصونها كنهج يحتذ يه غايته إثبات القدرة على كتابة شعر سليم ومبلغ وأظن أن تأطيرها كبدايات ومحاولات في الشعر يغني عن أية أحكام نقدية وليس أسلم من بداية تحتذي الأصول وتثبت نجاعتها وقدرتها في ذلك.

وإذا ما تأملنا بقية السمات الموسيقية الفرعية مثل الترصيع وجدنا الشاعر لا يلتزمه في كل القصائد لكنه يتوسل الإيقاعية الداخلية بكل السبل من تقطيع موسيقي وتجنيس وتكرار وتجاور صوتي ومقابلات مثلما نجد في قوله:

وما الود عند الغرب إلا لجاجــــة

وما الحاج عند الغرب إلا الجنى الشهد

فللغرب أهواءوللعرب ضدهـــــــا

وهل يلتقي الضدان ما اختلف القصـــد

وكل من استمع إلى أشعاره يعرف اعتماده المحوري على التكرار والتقطيع الموسيقي للصدور والإعجاب كظاهرة أساسية في خلق الإيقاع وفي الارتفاع بالمشهد الإنشادي وربما كان في ذلك بعض ما يفسر سحر الإلقاء لديه.

وفي الشعر الحر عموما تدفق موسيقي حافل بالإيقاع الموظف لم يخرج فيه عن نظام التفعيلة الواحدة منوعا القافية حاشدا الظواهر الموسيقية ليقارب بين الشعر الحر والطابع الإنشادي الذي لا يستغني عنه ولذلك كانت مقاطع عديدة من قصائد الشعر الحر لا تختلف في شيء عن أبيات الشعر العمودي إلا في توزيع الكلمات عبر السطور مثلما نرى في قصيدة "هواجس".

أكان علينا مضاجعة الهم يوما بيوم.

لكي يسمعونا

Ü 8 فعولن = بيت من المتقارب

أكان علينا العدول عن الشوق والأمنيات

لكي يقبلونا

Ü 8 فعولن = بيت من المتقارب

وأنت لاشك تلاحظ معي أنهما بيتان على العمود الشعري التقليدي من بحر المتقارب تماهت التقليدية الموسيقية فيها مع اللغة التقريرية والأسلوب الخطابي فأوشكت أن تكون نسخة باهتة من أية قصيدة قديمة.

وإذا خرج الشاعر من إسار الشعر القديم فلكي يحتضنه محمود درويش بأصداء لا تخفى مثل "المراوحة بين طابع إنشادي يصل إلى حد النمط الملحمي (انظر نهاية قصيدة الطوفان) ونمط غنائي مغلق يتمثل في مقطع يقوم على تشكيل دورة لحنية منسقة (الطوفان: ازدحام التائبين ...) ونمط تأملي سكوني يهدأ فيه الصوت ليمتزج الغناء بالقص" (بداية الطوفان) (13).

5-2: هيكــل القصيــدة:

انغلق العنصر السابق على تأكيد للاختيارات الموسيقية التقليدية في الشعر العمودي وعلى مزاوجة بين هذه الاختيارات وظواهر موسيقية حداثية في قصائد الشعر الحر بينما يهتم هذا العنصر ببنية القصائد في المرحلتين مركزا على نقطتين: المعارضات والأغراض الشعرية.

* المعارضات: هي نظم قصيدة على قافية وبحر قصيدة شهيرة سابقة ووفق هذا التعريف فهي إلى المظاهر الموسيقية أقرب لكن المعارضة أيضا هي احتذاء هيكل قصيدة شهيرة سابقة ولذلك ننزلها في هذا العنصر الخاص بهيكل القصيدة وفي المدونة المعتمدة نعثر على معارضة واحدة صريحة هي قصيدة "بانت سعاد" وبين القصيدتين اتحاد في البحر والروي مع اختلاف في القافية إضافة إلى اختلاف الأغراض والمعاني والمقاصد والبواعث يستحضر الشاعر من القصيدة القديمة مطلعها محورا فيه كما يحافظ على بعض التراكيب والمعاني الفخرية فيوردها دون تغيير يذكر ولا شك أن الشاعر واع بما تحمله القصيدة المعارضة من قداسة يوحي بها اسمها الذي شهرت به: "البردة". وهو كذلك لا يجهل الموقف الهام الذي ارتبط بها في حياة شاعرها وفي حياة الشعر العربي خاصة بتكريم الرسول لمؤسسة الشعر عبر خلع بردته على الشاعر وما في ذلك من اعتراف بهذه المؤسسة وبدورها في الدولة الإسلامية الحديثة.

تشترك القصيدتان في نفس إيقاعي غنائي يقربهما من النمط الملحمي ولا شك أن اختيار الشاعر لمعارضة "البردة" دون غيرها يتجاوز مجرد إثبات القدرات الشعرية ويتجاوز إثبات قدرة القصيدة الكلاسيكية على التعبير عن أحداث العصر الراهن لأنه يتخير ما يوظفه ليناظر بين الماضي والحاضر ولا ننسى الطابع التمجيدي الذي تطفح به القصيدة لعرب الزمن الحالي وهي في ذلك يتيمة لأن بقية الأشعار تهجو عرب اليوم بقدر ما تمدح وتفخر بعرب الأمس.

* الأغراض: دبّج النقاد كلاما غزيرا عن القصيدة التقليدية وأغراضها ولعلهم لم يختلفوا في شيء قدر اختلافهم في تأويل التعدد الاغراضي الذي تتسم به ولا يزال الحبر سائلا لتخوض الأقلام في هذه القضية ولئن بدا التقسيم واضحا منذ الإعلان النقدي الذي طرحه ابن قتيبة فإن قراءته لم يتفق حولها إلا أصحاب المذهب التفسيري الواحد في مواجهة مذاهب أخرى كثيرة وكثيرة جدا.

والخلاصة التي يمكن الخروج بها هي أن القصيدة التقليدية تختص ببناء ثلاثي يتمثل في:

1- مقدمة غزلية أو خمرية أو حكمية.

2- وصف الرحلة أو الراحلة أو مظاهر طبيعية.

3- الغرض المقصود من مدح أو هجاء.

وهذا التعدد الأغراضي يجعل القصيدة قائمة على وحدة البيت ويستدعي مطلعا وأشباه طوالع وأبيات تخلص وختاما وتحفل كتب النقد القديم بسمات فنية يختص بها كل مكون من هذه المكونات واعتمادا على تلك السمات تكون أحكام الإجادة والإصابة مثل براعة الاستهلاك وحسن التخلص وملحة الختام. والناظر في قصائد جمال الصليعي يدرك مدى محافظته على الهيكل التقليدي في قصائد المرحلة الأولى ومحاولته التخلص منها في المرحلة الثانية ففي الأولى: مقدمة طللية داعية إلى التخلص من المقدمات الطللية مثلما نجد في قصيدة هوامش:

أمست أمية قفرا ما تكلمنــــــــــا

منه الرسوم ولم تفصح لنا الدمـــن

حتى مللنا وقوف الشعر في طلــل

أخنت على أهله الأيام مذ ظعنــوا

وفي الثانية: مقدمات غزلية نفسية تراكب بين صورة المرأة / الطيف / القصيدة: مثلما نجد في قصيدة "حاجتي والأسوار".

سالت على ورقي المهووس ذات مسا سحائب البوح وانساب الضنى نفسا

وفي قصيدة "طقوس لزائرة أخرى":

سأمزج ألواني وأسكب رسمها خليطا من الشوق المبرح عناني

رفيقة هذا الدرب والصمت والسرى ومـســـعـدتي أما تغير خلاني

وفي آخر قصائده نجده يختار المقدمة الغزلية الحوارية:

قلــت علمنا على أبوابهـــــــا

منطق الطير فقالت غنّــــــني

قلت يا ليلاي هذا هــدهـــــد

ربما قالت بسري غنّـــــــني

أما عن طرق التخلص من غرض إلى غرض فكانت في قصائد المرحلة الأولى واضحة سافرة والقارئ لقصيدة "إلى بعض مصر" لا يجد عناء في البحث عن بيت التخلص:

فدع ذكر آلاف الممالك خلهــا تبخر بترولا ويشغلها النقــــد

وفي قصيدة "هوامش " ينتقل إلى الفخر باللغة العربية بعد هجائه للشاعر العربي المعاصر :

دع عنك هذا وعد القول في لغة ذوب العناقيد لم يلمم بها العفن

والأكيد أن هذه الطرق الواضحة في التخلص ليست النهج الأوحد الذي يتخذه الشاعر في الانتقال من غرض إلى غرض فكثيرا من تخلصه جيد مستحسن ويطويه خفاء الدراية بالكتابة الشعرية ولنا مثال دال على ذلك في كل قصائد المرحلة الثانية حيث تنبني النقلات من وحدة إلى أخرى على تشابك دلالي قوامه التعميق للصدى النفسي وللتفاعل مع الواقع الاجتماعي وللتلبس بالمعطيات التاريخية المستحضرة وبديهي أن تدل طرق التخلص على تعددية في الأغراض الشعرية وهي سمات تقليدية حافظ عليها جمال الصليعي في قصائده الأولى وإن اختلف توظيفها إلا أنها ظلت تتأرجح بين الشكوى والفخر والهجاء: شكوى من اسر الشاعر المعاصر وعفن الواقع وفخر بالضاد والعرب وبالعاشقين أمثاله وهجاء للواقع المرير وللـ"هم" الغامضة.

هذه "الهم" التي عوضت مسميات واضحة في القصائد الأولى. تعتمت إلا من الصفات السلبية المكدسة وغامت معها البنية التقليدية لتسفر القصائد – في المرحلة الثانية – عن وحدة عضوية ورموز فنية ليست المقدمات النفسية أو الغزلية إلا عمقا منن أعماقها لكن القارئ لبعض قصائد هذه المرحلة مثل قصيدة "زمن العرب" يدرك دون شك أن في طياتها هيكلا لا يبتعد كثيرا عن الهيكل التقليدي:

1- مقدمة نفسية شاكية:

2- فخر بالماضي:

3- هجاء للواقع:

4- استشراف للمقبل:

واستدعى التنوع الاغراضي أن تكون القصائد التي يكتبها الصليعي مطولات بمعنى من المعاني فبعض القصائد يصل طولها إلى ما يفوق الخمسين بيتا ومعدل الطول في القصائد العمودية يقارب الأربعين بيتا وتصل قصائد الشعر الحر إلى 150 سطرا وواضح من خلال مقارنة الأغراض وعدد الأبيات في كل غرض إن الشاعر يستعذب الفخر فيتمادى فيه 20 بيتا لكنه أيضا يحاصر من عدة أوجه فيوغل في الشكوى (25 بيتا) ويمعن في الهجاء (25 بيتا) ورغم أنه صحيح إلى حد كبير أن لا أحد يستطيع تحديدا لأغراض الشعر الحر أو على الأقل لا يستطيع ناقد أن يدعي انطباق الأغراض الشعرية التقليدية من مدح أو فخر وهجاء وغزل ووصف على القصائد غير العمودية مهما بلغت من طول أو قصر إلا أن القارئ لشعر جمال الصليعي يستطيع أن يلمح امتداد الأغراض الشعرية القديمة في قصائده من الشعر الحر والشعر العمودي:

وقع على ذيل الاعارب هكذا عطر الختام.

هم معشر لا شيء يغضبهم

لا صوت يسمعهم

لا مجد يدفعهم فلا

لا تنزعج مما صنعت

فليس فيهم من حياة

هم ألف شعب ميت في كل مفترق رفاة

بالعجز تتحد الطوائف كلها

فلبئس ما جمع الشتات

من يقرأ هذا الشعر لا يشك أنه هجاء وإن تلون بلون السياسة فلم يخرج عن كونه هجاء سياسيا.

وعلى هذا المنوال تتكون أشعار الصليعي:مزيج من الفخر والهجاء والشكوى يتضح في أغلب القصائد داخل وحدات مستقلة متتابعة متناسلة وقد تتوحد في القصائد الحرة داخل بوتقة الذات في رؤاها وأخيلتها لكنها في المرحلتين لا تـتـلون إلا بالهم السياسي والهم السياسي وحده.

5-3: المعجــم: تنعت لغة جمال الصليعي بالصفوية والتراثية والشبيهة بالجاهلية وهي نعوت تقارب وتلامس ظاهرة اللغة الفخمة الجزلة التي يطوعها الصليعي في أشعاره.

- على مستوى المفردات: كثيرا ما يدرج الشاعر الغريب الذي قد لا يعرف إلا بالرجوع إلى المعاجم:

فلا ابن مروان مزهو بجلّـقـه ولا بـجـلـّق من أيامه سنن

وكثيرا ما يكون غموض المفردة متأتيا من تصرف في استعمالها مثل قوله: "تتفتح الشجراء" أو قوله: "في كل ساعدة فصد" أو قوله:" الضاد ينتخل" والأمثلة عن المفردات التي أصبحت غريبة في أيامنا هذه كثيرة وكثيرة جدا وكلها تثبت نهل الشاعر من عيون الشعر العربي القديم وتشبعه باللغة التراثية وقدرته على تطويعها في فنه الشعري.

- على مستوى السجلات اللغوية: نلحظ حضورا مكثفا للسجل الفروسي بما فيه من خيل وسيوف وغمدان ورماح وغارات وهو مرتبط بسجل آخر يحيط بعالم البداوة والصحراء مثل القيظ والظلام والرياح العاوية في الفجاج دون إهمال للقوافل والظعائن والذئاب والرعيان وما يعرفه البدوي من تثمين للغمام والغيث والسقيا .إن السجلين يحيلان على ماضوية في التصوير نهلها الشاعر من القصائد العربية القديمة دون أن ينفي ذلك تأثره بالمحيط البدوي الصحراوي الذي نشا فيه والأكيد أنه لا يورد السجلين بغية الوصف كما كان يفعل الشاعر القديم بل لعله يشاركه في توظيف رمزي لهما: السجل الفروسي تمجيد للماضى واستشراف للمستقبل والسجل البدوي غالبا ما يوظف في تصوير الاحباطات التي تعانيها الذات في زمن الخسارة والمرارة والوحدة الخانقة التي يعانيها الشاعر الغريب .لكن حضور هذين السجلين يسير إلى التناقص مع التقدم في زمن الكتبة ليطغى سجل ديني حافل في القصائد المتأخرة لأن الشاعر أصبح يعتمد إلى القصة الدينية فيعالجها ويطوعها للمضامين السياسية التي لم يتنازل عنها مطلقا.

6- التـدليــــــل:

يقول جمال الصليعي عن الشعر بأنه "كارثة لابد منها للإنسانية هو محرار الأزمنة دولة تسقط كل الدول ولا تسقط كل سلطة انهارت إلا سلطة الشعر" ويضيف "أن الشعر هو أبعد المسافات التي بلغها الإنسان في محاولة التعبير أن الشعر هو عمل في المفارقات والنقائض لإنجاز الممكن الأوفى و المحافظة على إصبع الاتهام "الشعري" ممتدا في الاتجاه الصحيح" وتتضح القصائد بتصور مشابه يصبح فيه الشعر نزيفا وهو في الوقت نفسه "أداة الخلاص الوحيدة" ويصبح الشاعر نبيا أو ساحرا لكنه أيضا محبط عاجز محاصر والمطلوب منه دائما أن يتجاوز جراحه وأن ينبعث من قبره في موقف صمود خاسر والحق أن جمال الصليعي ينفي الخسارة عن الشاعر نفيا مطلقا يقول:" لا أرى أن هناك صمودا خاسرا خاصة للشاعر فقط يمكن أن يمكن أن يكون هناك خسارة على مدى اليوم الذي يعيشه أما غده فلا حتى وإن لم يحضره" (14).

الحديث عن الخسارة يستوجب أن توجد معركة أو على الأصح قضية وفي شعر جمال قضية واحدة لا غير هي قضية الشاعر الذي يعاني احباطات الحرف أمام رداءة الواقع وكل قصائده تنويع وتلوين في العزف على هذه القضية: القصيدة طيف زائر وحبيبة محاورة الحرف مشدود متوهج والشاعر يسترجع مفتخرا هاجيا متشكيا منتفضا انتفاضة الجريح الذبيح ورغم ذلك فهو يستشرف مقبلا أفضل لا نشك أننا هنا أمام عمق أعماق الحداثة ألا وهو الانشغال بعالم الذات الداخلي في تفاعلها مع العصر وتقلباته لكن يبقى للماضي تسرباته دون أن يكون نقيضا للحداثة بل هو أداة فنية أو مضمون يثار ولذلك سنهتم ببعض الظواهر التي تشكل في الآن نفسه ملمحا ماضويا وتعبيرة حداثية مثل توظيفه للنص القرآني والعلم التراثي ثم تعامله الشعري مع الزمن الماضي.

6-1: التنـاص القـرآنـي:

أكاد أجزم منذ البداية بأنه لا توجد قصيدة واحدة خالية من توظيف للنص القرآني وقد يتواجد التوظيف داخل عبارة وقد يملأ مقطعا وقد يصل إلى أن يؤسس قصيدة بأكملها ولا يعد ذلك بدعا أضافه جمال الصليعي فالتناص القرآني ليس غريبا على الشعر العربي الحديث وليس غريبا على الشعر العربي القديم طالما أن القرآن حدث أسس التفاعل معه حضارتنا بجميع معالمها ونتاجها والتفاعل معه مستمر إلى اللحظة الراهنة حتى المستوى الإبداعي الأدبي.

يستحضر الشاعر الطوفان وقصته في أكثر من مقطع بل أن قصيدة بأكملها ممهورة بـ"الطوفان" لكن البدايات كانت بتصور ناقم وصل حد العدمية وأصبح فيه الطوفان أحسن الحلول للخروج من وضعية الذل التي يعيشها الإنسان العربي.

رباه أنعم فزلزلها بأرجسها وجد بطوفان نوح كي يسويها

وفي السياق نفسه يستحضر أعاصير عاد: "ويا أعاصير عاد الأمس دكيها"

ويطغى التوظيف القرآني في القصائد ذات النفس الصوفي حيث جدلية العشق والدنس وحيث المعاناة الذاتية التي يجهد الشاعر نفسه في تصويرها ليعبر عن أوجاع القصيد وكأن الشعر ذات أخرى يبغي التوحد بها مهما بلغ الإحباط ومهما وصل عجز القصيد عن كسر وحدة الصوت وغربته فإذا ما تم التوحد عادت إليه نبرته الفخرية وفي سياق الفخر الذي يسوقه في "السينية" يوظف قصة مريم العذراء ليجعل من نفسه (الذات الشعرية العربية) مسيحا مصلوبا:

هزت إليهابجذع النخل مرضعتي

مذ طرف البسر في عرجونها سدسا

وعلمتني وقوف النخل في زمـــــن

يساقط القوم في إعصاره نكســــــا

لم تنتبذ بي قصيا من مواضعهـــا

ولم أصم عن جلي القول محترسـا

فلم أكن نفخة علوية هبطــــــت

ولا مسيحا بباب الرب لا قدســـا

ولا نبيا تداعوا عند غرتــــــــــه

ولا تخطيت في مطويها الحدســا

ولست اترك وجهي عند صفعتهم

فقد يقولون مصفوع وما عبســــــا

وهو بهذا التوظيف المقطعي للقرآن والقصص القرآني:

- يجذر انتماءه للأرض العربية.

- يعلن رفضه للسقوط السياسي والحضاري.

- يرفض طوق الصمت المفروض على الشعر الملتزم.

وهكذا فإن النص القرآني يوظف في أشعار الصليعي ضمن ثلاثة أبعاد: بعد سياسي رافض للأوضاع المتردية التي تعيشها الأمة العربية وبعد حضاري يفخر بالانتماء للعرب ويسعى لتحصين الاستقلال الحضاري من أشكال الغزو الغربي وثالث الأبعاد هو بعد وجودي يخص مأساة الشاعر المختنق بالصوت الثائر في زمن الصمت والتخاذل.

ويبقى وجه ثالث من وجوه التناص القرآني يفوق العبارة والمقطع –ولاحظ أننا قد أهملنا المفردات مثل الشيطان والاثم والفردوس والناسك والعابد... على كثرتها في القصائد لكنها قد لا تحيل على نص قرآني بقدر ما تحيل على المرجع الديني عموما – يتمثل الوجه الثالث في أن القصيدة تتلفع كلها بالنص القرآني فتتشكل بأكملها عبر توظيف متكامل له.

ومن بين هذه القصائد قصيدة "العنكبوت" والعنوان نفسه يحيل على اسم سورة من سور القرآن الكريم تقوم القصيدة على ثنائية كبيرة هي: الأنا/الآخرون الراحلون وفي وحدة الأنا تقوم ثنائية صغرى هي الأنا/ العاشقون ومن ثم تتفرغ الثنائيات: الأمس /اليوم، الحلم/ الواقع، لتصب كلها في معاناة الشاعر المحاصر الوحيد بعدما انسحب أحبته العاشقون وبعدما استسلم الآخرون الراحلون لزمنهم فشبعوا وجوما وموتا. لا مفر من أن يواجه الشاعر قدره مدركا ضعفه مؤمنا إيمانا مقضا بواجبه وتتلون القصيدة تبعا لذلك بلونين الأول سياسي يصور الواقع بانتكاساته الراهنة قيميا وثقافيا وسياسيا، واللون الثاني مأسوي يصور الذات الفرد أمام مصيرها العدمي .ويوظف النص القرآني ضمن هذه الخيوط المتشابكة. إن خيوط العنكبوت هي خيوط الصمت والسكون والموت التي حاصرت الجميع وتريد أن تحاصر الشاعر أيضا بعد أن انسحب رفاقه دون أن يكون قادرا على الفرار مثلهم ولا على الاستسلام للعنكبوت كي ينسج خيوطه على فمه دلالة على صمته المطبق. وتأتي الإشارة القرآنية "لقد ألنّا تحت دمعتك الحديد" لتجعل من الشاعر نبيا باكيا تطحنه خيارات قاسية: رسالة لابد منها ومعاناة لم يعش مثلها الأنبياء تؤسسها مفارقة عجز الفردية وضرورة الجماعة التي تحولت إلى جماد وليس أمام الشاعر إلا أن يكون الشمعة الضاوية دون أن يتأكد إن كان الضوء الذي يفنى من أجله منبعثا لعميان أم لبمصرين. ويزيد الاقتباس القرآني الثاني الأمر توضيحا فيقول: "وتحدرت طبقا على طبق". المعاناة إذا نابعة من الوحدة والعجز لكنها تتبع أيضا من كثافة العواصف في الواقع المقاوم وهو ما يجعل الهدف ممتنعا بل مستحيلا وكذلك الأمر مع خيار الصمت لأنّه أفظع ما دام يطيح بالرسالة المقدسة التي ينوء بها العنـق ولذلك تتكرر الإشارة القرآنية مقترنة برفض الصمت:

عش على وجع القصيد

أنّا ألنّا تحت دمعتك الحديد

وتنتهي القصيدة بتأكيد نبوءة الشاعر وتوظيف آية قرآنية في استشراف مستقبل أفضل:

وليس أوهن من بيوت العنكبوت

خذ ما لديك بقوة...

ولا ندري كيف وفق الشاعر بين الواقع المتحدر طبقا على طبق وبيوت العنكبوت الواهية ليجعل من الشاعر/ النبي ينتصر على وحدته وعجزه وضعفه ليأخذ ما لديه بقوة وقد صوره في البداية نازفا غلبه الحديد:

فانزف

انزف لقد غلب الحديد

وحاصرك الجليد

انزف لعلك إذ تموت

تدب في هذا الجماد

مواجع الميلاد والأطياف والذكرى

والشاعر مثل كل الأنبياء منتصر سواء ظل حيا أو مات تحت أطباق الواقع العاصف لأنّ انتصاره في استمرار أفكاره وانتشارها إلى أن تصبح واقعا بديلا يفرض نفسه عبر الفعل الثوري فالعدو هش إلى أقصى حدود الهشاشة وتكفي أي تعبيرة رافضة للصمت والسكون كي تجهز عليه والمأساة تكمن في اللامبالاة والانسحاب أكتر منها في أي شيء آخر.

القصيدة الثانية التي يتمازج فيها الشكل الشعري بالنص القرآني هي قصيدة الطوفان وعنوانها يحيل أيضا على قصّة قرآنية وبنيتها تقوم على تقابل بيت الأنا والهم غير أنّ "هم" هذه القصيدة ليسوا راحلين بل هم قابعون في زوايا الجمود والحيرة وتكايا التصوف. وأول إطلالة للنصّ الديني هي:

قلنا هو الطوفان

فانهمروا إلى ما ليس يعصمهم

وواضح فيها توظيف قصة نوح وابنه داخل سياق سياسي يشمل الموقف من السلام العربي الإسرائيلي ضمير الجمع المتكلم "نحن" يوحد ما انشطر في أوّل القصيدة بين ذات الشاعر المخاطبة- بكسر الطاء- وذاته المخاطبة- بالفتح- وهو بهذا الضمير يخرج من دائرة المناجاة الذاتية المفجوءة دون قدرة على التصديق الكامل لما يسمع يخرج إلى ردّ الفعل فيحذر وينذر متلبسا كعادته بثوب النبي الذي يرى الحق حقا ولا يطاله شك في قناعاته يحذر وينذر بأنّ التخلف والاستبداد والطبقية والجمود الفكري ومظاهر الانحطاط الديني قد تجعلنا لقمة سائغة في يد العدو لكنه يفاجأ- هل يفاجأ حقا ؟ - بمصالحة مع العدو وإقامة "سلام عادل معه".

أمّا القصيدة الثالثة فهي "وادي النمل" ومن العنوان ندرك أن الشاعر يوظف قصة سيدنا سليمان مع النمل نلحظ منذ المطلع التناص جليا بين الشعري والقرآني:

قلت علمنا على أبوابهــــــا

منطق الشوق فقالت غنــــني

وضمير الجمع هنا لا يحيل على ذات الشاعر النبي بل يحيل على ذات/ جمع هي الأمّة العربية التي تعلمت المنطق على أبواب اليمن مهد الحضارات .و يقيم معها الشاعر حواره الوجداني بنبرة اعترافية معذبة ولذلك لا يختار من الأسماء إلاّ أكثرها دلالة على الحب العربي (ليلى):

قلت يا ليلاي هذا هدهـــد

يلقط القــــول فقـــالت غنّـــني

ينطلق الحوار بين الشاعر وليلاه موظفا الهدهد القرآني ليقنّع بسببه اعترافاته وشكاواه كما قنّع قصيدته بهذا الإطار القرآني الذي يستخدمه:

آه يا ليلاي لولا هــــــدهـــــد

كنت حدثتك عما هــــــــــداني

ولكنه تحدث بوضوح لأنّه لا يحتمل أن تخفي الرموز حقائق المعاناة التي يعيش ففسر وأومأ وشرح محافظا على القصّة القرآنية وقواعدها وتفاصيلها محاولا تطويعها للفخر بالماضي العربي والشكوى من الحاضر المقيت فالنملة التي غدت خرساء مشردة وحيدة بعد أن كانت ناطقة عزيزة بأرفع المنازل رمز سافر الوضوح.

وبلقيس ملكة سبأ رمز أوضح وهو لا يطلب إلاّ أنّ يقرأ من جديد ليكتشف المرء كم فيه من كنوز. ولعلّ العودة إلى الوضوح ما يجعل هذه القصيدة ردّة في مسار الشاعر التطوري لا يفسرها إلا الإصرار على نهج شعري مضاد للسائد الإبداعي والنقدي وليس غريبا أن ينهي الشاعر الجزء الأول من قصيدته بالشكوى من الواقع الآسن مازجا إياها بفخر وغزل بالأمّة العربية التي يخاطبها:

واحفظينا قبل أن تغتـــالنــــا

سرر الموت بليل أســــــــــــن

وأري البحر قناني حبـــــــــنا

سكر البحر وما جت سفـــــني

6-2: الأعــــلام التــــــاريخية:

يوظف الشاعر الأعلام التاريخية من الماضي القريب والبعيد والخاصية الأساسية في هذا التوظيف هي أنّ كلّ الأعلام عربية مما يجعل قصائده لا تحفل بغير المجال العربي .منها ما يستدعي الفروسية والفتوة في ماضيها المشرق دون أن يغفل الشاعر عن بكاء ضياعها:

مات المثنى وظلّ الشرق ينـــدبه

فسائل الخيل من يكبر نواصيــها

ومن الأعلام ما ورد جمعا ترتبط به أسماء أماكن ومواقع مثلما نجد في سخرية الشاعر من العدو الصهيوني وممن عقد اتفاقيات الصلح والسلام معه داعيا للاعتبار من ماضيه بيننا وفي ربوع سوانا من الأمم:

سل سل عنهمو التاريخ كم بذلوا الأمان

سل سل عنهمو أمما سوانا

سل عنهمو العهد القريب

لله كم عطفوا على وجع الصليب

لله كم احبوا المسلمين

لله كم حفظوا العهود

ويستعيد الشاعر التوظيف ذاته في قصيدة أخرى:

انهمروا إلى ما ليس يعصمهم

إلى طاقية الحاخام

إذ يتذكر "الأشراف" جيرتهم بخبير

وجلي أن الشاعر يقارن بين ما يشهده العرب من مجازر وما تحمله الأنباء عن اتفاقات السلام وهو يرجع دائما إلى القرآن في تصوير اليهود ويوظف المعطيات في تبني موقف سياسي رافض لكنه مليء بالمفارقة المرّة والسخرية الموجعة.

من الأعلام أيضا ما هو مستمد من القصص العشقي المنتشر في الحضارة العربية ماضيا وحاضرا وهذه الأعلام غالبا ما تكون رمزا للوطن مثلما رأينا مع ليلى في قصيدة "وادي النمل" ومثلما نجد في توظيفه لبثينة جميل:

ها أنت تعلم أن لو بثن شــاهدة

كنا اجتمعنا إلى أهدابها قسســا

وقد تكون رمزا للهم العاطفي الغزلي الذي يدعو الشاعر لتجاوزه رغبة في الانهماك والانشغال بما هو أهم مجسما في القضية السياسية:

مرت بثينة لم تعلم بحاجتنـــا

فاعبر لحاجتنا الأسوار والعسسـا

ومن الأعلام ما كان قبليا يوظف في تصوير الروابط العروبية الجديدة باعتبارها بديلا عن الرابطة القبلية رغم أنّهما يشتركان في القوّة حتى أن الفرد لا يلقى لنفسه منزلة أو مكانة بدونها يقول في السينية:

هذي غزية لم تترك عوائدها

ولم أكن مخلفا عهدي ولا نكسا

ولست أريد أن أسترسل فاعرج على توظيف أعلام الماضي القريب مثل جمال عبد الناصر وسعد زغلول فهي رموز واضحة وتوظيفها أوضح والخلاصة أنّ المجال دائما عربي في أدق تفاصيله وأن التوظيف سياسي في خطه العام وأوهم ما يؤكده في أغلب تجلياته أن الحرف الشعري يعيش مأساة لأنّه لا يرقى إلى أن يكون سلاحا فعالا في مواجهة واقع يزداد ترديا يوما بعد يوم.

6-3: الـــزمن المـــــاضي:

يؤكد الشاعر المضمون الواحد لكل قصائده بقوله: "نعم هناك قضية واحدة مركزية وكل ما سواها فروع وتبعات ومن تبعاتها وأرى الانشغال بالفروع قبض الريح ".(15) ولذلك لا نستغرب أن تغيب القضايا الاجتماعية والثقافية والأدبية ولا يستغرب أن يغيب الشاغل المحلي أو الإقليمي أو الوطني أمام حضور كاسح للهموم القومية. تقرأ كل القصائد فلا تعثر على دليل واحد يمكن أن يؤكد لك أنّ الشاعر قد أخفى هنا أو هناك معطى ذاتيا أو إقليميا. لا توجد إلاّ قضية واحدة هي الشاعر وأمته العربية. وتثار هذه القضية غالبا عبر فخر بماض تليد وهجاء لواقع رديء وشكوى من حصار خانق. وتولد القصيدة عبر تفاعل مع حدث سياسي قومي (اتفاق سلام، حرب خليج). تنشط الذاكرة لتبحث عن المعادل التراثي في قصة قرآنية أو مثل أو قصة تاريخية ثمّ ينطلق التشكل بمعالجة توظف الماضوي في بلورة التفاعل النفسي والموقف النهائي من الحدث وبعض القصائد وليدة التجربة الذاتية التي تستحضر الشاغل القومي مثل "وادي النمل" التي كتبها الشاعر بعد زيارة اليمن ومن قصائده ما هو ترجيع على أبيات شعرية قديمة (العنكبوت والترجيع على يائية مالك بن الريب) وعموما فإنّ الكتابة الشعرية لديه هي بشكل أو بآخر نشاط ذاكرة لا تستدعي إلاّ المخزون العربي الإسلامي ولا تستهدف إلا تصوير معاناة الشاعر العربي في العصر الراهن ولذلك كان الماضي هو الرداء الذي تتلفع به القصيدة (وادي النمل ) وهو العصب المركزي الذي يشد مفاصلها (العنكبوت) وهو المرجعية التي يستند إليها التصوير الشعري (الطوفان) أما الماضي كمضمون فلقد وجدنا ثلاثة أوجه لتناوله: الماضي الرومنسي/ الماضي المزعوم/ الماضي المجيد.

6-3-1: المــاضي الــــرومنسي:

يثار هذا الوجه عند العزف على ثنائية الأنا والـ"هم" فبقدر ما يكون الجمع نفعيا جامدا ميتا تكون الأنا رومنسية تستدعي الماضي الشعري المحتفل بالطبيعة في صفائها وطهارتها ومشاركتها العشاق خوالج صدورهم:

إنّي وفي زمن الوجوم

لأشتهي لا تعجبوا سهر النجوم

كنا نزاوج بين شوقينا

فتنهمر الغيوم

ويستعاد المقطع الرومنسي في القصيدة نفسها تعميقا لاغتراب الشاعر عن عصره ومجتمعه:

إنّي وفي زمن الحجر

لأشتهي لا تضحكوا سحر القمر

ويستعاد للمرة الثالثة لتصوير الطبيعة بديلا عن المجتمع الذي لا يجد الشاعر مفرا من القطيعة معه لكن الطبيعة ذاتها لا ترقى إلى أن تكون بديلا كاملا لأنّها تكتفي بأن تكون إطارا – مجرد إطار- للتآكل الداخلي الذي يعيشه الشاعر:

إنّي وفي زمن يجلله الخراب

لأعيش هذا الليل

أغنية تراتيلا مجنحة أنفقه شموعا

وهكذا يحاصر الشاعر بالاختلاف والاغتراب فيلوذ بالرومنسية التي طرحها الواقع الآسن وطحنتها المصالح المتصارعة على المال والجاه والسلطة ويبقى الشاعر وحيدا يناضل من أجل استعادة الاحتفاء بالوجود كي يحس كل كائن بلذة العيش منتبها لما في الوجود والحياة من جمال بعد أن حرمه القهر والعجز والخوف لذة الاستمتاع بالحياة.

6-3-2: الـماضي المجيـد/ المـاضي المـزعوم:

شاع في جميع ضروب الفكر العربي المعاصر والحديث تلك العودة إلى الماضي تحصنا به من احباطات الأزمة الحضارية العاصفة بالكيان ولعل شعر جمال الصليعي الفخور بانتمائه العربي لم يغفل فرصة لتمجيد ماضينا الذهبي منخرطا بكل طاقاته في هذا الضرب من الاستعادة والاجترار لكنه أمام فظاعة الواقع يكاد يشك في ذلك الماضي:

تلكم مآثر وأكاد أجزم أنّها بدع كذاب !!

بل يصل به الأمر إلى أن لا يطلب من الماضي الذي تتحدث عنه الكتب إلاّ ما يؤكد إنسانيتنا وما يثبت أنّنا عشنا الآدمية حقا وما يقطع الشك في أنّنا قد عرفنا الأمن وذقنا حلاوته في يوم من الأيام:

سأكتفي من كل ذكر الكتاب

بما يحوّلنا بشر

بنصف بيت أمن

بل قل بشبر أمن...

ويحق لنا أن نتساءل : هل يصل إحساس الشاعر بانعدام الآدمية في عرب اليوم إلى هذا الحد ؟ أيصل وعيه بالرعب الذي يعيشه الإنسان العربي كخبز يومي إلى درجة أن يشكك في وجود عرب بدون رعب ؟

قد لا يكفي الزمن وحده ليفسر النقلة الكبيرة القاسية وبما أنّ ما نعيشه في حاضرنا لا يقبل شكا أو تشكيكا فهو: "زمن الرداءة والكآبة والعجب"

لذلك يجنح الشاعر إلى التشكيك في حقيقة الماضي كما يصوره لنا التاريخ ورغم كل ذلك فإنّ الماضي يستهوي النفس بأن يستعاد فخرا بالانتماء لهذه الأمّة المجيدة:

ويمموا أمة كانت لهم أبـــــدا

صخرا تلاشى على شطآنه السفن

وبالماضي وحده تتحصن النفس من بواعث الشك أمام صيرورة الواقع الموغلة في اللامنتظر:

وما دروا أن هذي الأرض سيدها

شعـب تــحاربه الدنيا ولا يهـن

وبالماضي نتيقن تمام اليقين بأنّ أمّة كان ذلك إشعاعها الحضاري لن يكون مستقبلها إلاّ غدا مشرقا مهما تردى وتدهور واقع الأحوال ويكفي الماضي فخرا أن ربطنا إلى هذه الأمّة بانتماء موضوعي فإن لم يكن له من فضل غير توحيد الأمّة العربية لكان ذلك كافيا وزيادة. إنّ شرف الانتماء إليها – عند الشاعر- فوق كل شرف مهما تعذب من "زمن العرب" ومهما كان الصمت والانسحاب العربيان قاسيين على القلب يصوغ الشاعر الماضي كرابط موضوعي بطرق عدّة: أولها الفخر باللغة العربية وثانيها الفخر بالعروبة وأينما تجلت ولنتذكر اعتزازه بالنخل وتماهيه به في بعض قصائده يقول في إحداها: "وعز النخل منغرسا"

وهو يوظف أحيانا أسماء البلدان والأنهار ليدلل على وحدة الكيان الذي يفخر بالانتساب إليه ألا وهو الوطن العربي الذي يتجاوب شرقيه بأصداء غربيه ويتفاعل جنوبه مع أصوات شماله وتتوحد أبعاد الزمان في جوهر كيانه: يقول مخاطبا مطربا عراقيا:

بيني وبينك ما غناه مجـــردة

عندي وردده نهراك وانبجســـــا

لكن الزمن مثلما يشكل - ماضيه وحاضره ومستقبله- عامل توحيد لا تنفصم عراه على المستوى الموضوعي فإنّه يخلق على المستوى الذاتي قطيعة تدفع إلى التيه بين تناقض الأضداد إلى حد التشكيك في الماضي والهروب من تعاسة الحاضر أو الاستسلام لعدمية المستقبل يقول جمال الصليعي في قصيدة "زمن العرب":

وابحث في صدى أمسي

وابحث في مدى يومي

فما في يومنا أمس

ولا في أمسنا يوم

فيخجلني ويؤلمني انهياري

إنّ القطيعة حادة و السؤال عن الغد لا يتأسس على معطى متجانس. قد يعود الأمس وقد يمتد اليوم لكن نهايات القصائد حاسمة دائما متفائلة بوثوق ولا ندري على ماذا يتأسس هذا التفاؤل يجيب الشاعر بأنّه الإيمان بانتصار الشاعر "حيا أو ميتا" فهل من مصدق بنبوءة الشعراء ؟ !

7- كلـمـــة أخيـــــــرة:

خلصنا إلى أن شعر جمال الصليعي صوت خالص العروبة يتحصن بالماضي وبالموروث كي يؤسس عروبته ملغيا حضور الآخر بجميع أجناسه وشعوبه تجلى ذلك على المستوى الموسيقي و التركيبي والدلالي وفي التعامل مع الزمن في حدّ ذاته وإذا ما كان الصليعي يعتبر ذلك هدفا مشروعا غايته تأسيس حالة شعرية عربية لاشك في عروبتها فإننا قد نخالفه الرأي بدليل أن قصائده ارتقت ونضجت وتخطت طور المحاولات الشعرية إلى الكتابة الفنية ذات الشعرية المميّزة منذ أن خرج من أسر الموروث الشعري القديم "ولم يعد يستغرقه تراثه إلى درجة تمحوا حضوره المستقل" (16). وإذا ما تماهى صوته مع الشعر الجاهلي أو الأموي أو العباسي في بعض المقاطع والقصائد وإذا ما تماهى مع الشعر الإحيائي في قصائد أخرى وإذا ما انتهى إلى كتابة" تصوغ تجاربه على نحو مستقل وتفضي به إلى أفق الحضور الإبداعي" (17). - وإن كانت تلامس في هذا الطور نفسه كتابات محمود درويش- فإن كل ذلك دليل على أنه يتمثل جيدا الماضي الشعري ويتفاعل بعمق مع حاضره ويسير بخطى سديدة نحو الخصوصية التي تميز صوته كشاعر إذا تواصلت مكابدته للحرف وأوجاعه. ألم يقل نزار قباني عن قصيدته:" أشعر بأن عشرة آلاف شاعر يكتبونها معي من طرفة والحطيئة إلى أبي تمام والمتنبي وشوقي" (18). ونحن لا نملك إلا أن نعجب منذ الآن بتطويعه للإطار الكلاسيكي للنهوض بجملة شعرية فياضة حديثة ونعجب ببنائه الرمزي وتـناصه الموحي الموظف ونصفق لطابع إنشادي إلقائي ساحر مازال يرسخ للشفاهية والتطريب الشعري قدما بعد قرون من الثقافة الكتابية دفعت إلينا بشعر "يقرأ دون يلقى" ولعل ذلك ما يشير من جديد إلى علاقة خاصة بين شعر جمال والزمن هي علاقة مفارقة شديدة وصراع أشد فقـصيدته تساجل الزمن لتنصب زمانها لكنها تضطر لتعترف به لأنه مصدر الفخر ومصدر المعاناة هو باعث للوجود ولكنه كذلك دافع للعدم والشاعر وحده يحدس هذه المفارقات ويكتوي بنار تناقضاتها يؤمن بأن الشعر فوق كل الأزمنة لكنه مقتنع بأنه كذلك وليد الأزمنة يدرك جيدا بأن من يسحقه هو الزمن ورغم ذلك لا يملك إلا أن يراهن عليه.

الهـــــــــــــــوامش:

1- بدر شاكر السياب: المعبد الغريق ط دار العودة بيروت 1971 ص100

2- كتاب "واد النمل " جمال الصليعي، الطبعة الأولى، الشركة التونسية للنشر تونس 1998.

3- حوار خاص مع الشاعر

4- محمود أمين العالم مقال "ملاحظات أولية حول الثقافة العربية والتحديث". مجلة الوحدة عـدد 101/102 سنة 1993 ص 11.

5- أحمد المعداوي " الشعر العربي والهوية القومية"، مجلة الوحدة عدد 58/59 سنة 1989 ص 34.

6- صالح جواد طعمة مقال " الشاعر العربي المعاصر" مجلة فصول المجلد الرابع العدد 4. سنة 1984 ص 11.

7- محمد صالح الشنيتي "خصوصية الرؤيا والتشكيل في شعر محمود درويش" فصول المجلد السايع العددان الأول والثاني سنة 1987 ص143

8- د. محمد الهادي الطرابلسي "خصائص الأسلوب في الشوقيات" منشورات الجامعة التونسية ط1 تونس 1981 ص 31.

9- حازم القرطاجني " منهاج البلغاء" تحقيق محمد الحبيب بالخوجة ط1 دار الكتب الشرقية تونس 1966 ص268.

10- محمد الهادي الطرابلسي، مرجع سابق ص40.

11- م.ن ص 40.

12- م.ن ص46.

13- محمد صالح الشنيطي مرجع سابق ص143.

14- حوار خاص مع الشاعر.

15- حوار خاص مع الشاعر.

16- جابر عصفور مقال "ذاكرة الشاعر التقليدي" مجلة العربي العدد 458 سنة 1997 ص82.

17- جابر عصفور المرجع السابق ص 82.

18- نقلا عن ابراهيم الرماني مقال "النص الغائب في الشعر العربي الحديث" مجلة الوحدة، العدد 49 السنة الخامسة، أكتوبر 1988، ص 54.